الدليل الرقمي: حجة في الإثبات متى سلم من العوارض
رزان عثمان


الدليل الرقمي: حجة في الإثبات متى سلم من العوارض
في زمنٍ تتقاطع فيه التقنية مع تفاصيل حياتنا اليومية، لم تعد الوسيلة الوحيدة للإثبات تقتصر على المحررات الورقية أو الشهود، بل أصبحت البيانات الإلكترونية والوسائل الرقمية تشهد على عديدٍ من التعاملات والأحداث. ومن هنا برز الدليل الرقمي كأحد أهم وسائل الإثبات في العصر الحديث، وقد أدرك المشرّع السعودي أهمية هذا النوع من الأدلة، فخصص له بابًا واضحًا في نظام الإثبات، موضحًا ماهيته، وأنواعه، وشروطه، وحجيته في المحاكم.
أولاً: مفهوم الدليل الرقمي
تتعدد صور الأدلة بتعدد الوسائل التي تُنشأ بها، فيقصد بالدليل الرقمي وفقًا لما نصت عليه المادة الثالثة والخمسون من نظام الإثبات بأنه: "كل دليل مستمد من أي بيانات تنشأ أو تصدر أو تسلم أو تحفظ أو تبلغ بوسيلة رقمية، وتكون قابلة للاسترجاع أو الحصول عليها بصورة يمكن فهمها". ويُعد هذا النوع من الأدلة امتدادًا لمفهوم الدليل العادي كالكتابة أو الشهادة أو المستندات الورقية، لكنه يتسم بخصوصية نابعة من طبيعته التقنية واعتماده على الأجهزة والأنظمة الإلكترونية، ويشمل هذا المفهوم جميع أشكال البيانات الرقمية التي يمكن عرضها أمام المحكمة لإثبات واقعة معينة، وبذلك فإن أي أثر تتركه المعاملات الإلكترونية من صور، وتسجيلات صوتية، إلى الرسائل المكتوبة والمقاطع المرئية وغيرها يمكن أن ترقى لتكون أدلة رقمية إذا تواجدت فيها الشروط والضوابط والآليات الفنية التي تجعلها قابلة للاعتداد بها قانونًا.
ثانيًا: أنواع الدليل الرقمي
عدد المشرّع السعودي في المادة الرابعة والخمسون من نظام الإثبات صور الأدلة الرقمية وذلك بهدف تغطية مختلف الأدوات والوسائل التقنية التي يمكن الاعتماد عليها أمام القضاء. لتشمل كل ما يمكن الاستناد إليه أمام القضاء، وهي:
§ السجل الرقمي:
هو ما يتم تدوينه من خلال الأنظمة الإلكترونية من بيانات، أو عمليات، مثل سجلات الدخول إلى الأنظمة أو قواعد البيانات.
§ المحرر الرقمي:
يشمل الوثائق والعقود والفواتير التي يتم إعدادها أو توقيعها أو تبادلها إلكترونيًا.
§ التوقيع الرقمي:
هو بيان إلكتروني مدرج في تعامل إلكتروني أو مضاف إليه، يثبت هوية الموقع وموافقته على التعامل الإلكتروني ويكشف عن أي تعديل لاحق عليه
§ المراسلات الرقمية بما فيها البريد الإلكتروني:
هي كل مراسلة تتم عبر الوسائل الإلكترونية كرسائل التواصل الخاصة، أو العامة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والبريد الإلكتروني ونحوها.
§ وسائل الاتصال:
كل وسيلة اتصال بما يشمل تطبيقات التواصل الصوتي أو المرئي أو الكتابي عبر الشبكة الرقمية، أو وسائل الاتصال العادية كالمكالمات الهاتفية ونحوها فيما لو حفظت أو سجلت بشكل رقمي مشروع.
§ الوسائط الرقمية:
تشمل الصور، التسجيلات الصوتية، ومقاطع الفيديو، والنصوص، والرسوم التي تُستخدم لإثبات وقائع محددة.
§ أي دليل رقمي آخر:
وهو نص مفتوح يتيح تجدد صور الأدلة الرقمية واستحداثها بحسب تطور العلم بما يضمن شمول النظام لكل تطور تقني جديد، وتشمل الوسائل الرقمية الأخرى ما يجوز به تقديم الدليل الرقمي إلكترونيًا والتحقق منه عند الاقتضاء.
ثالثًا: خصائص الدليل الرقمي
يتميز الدليل الرقمي بخصائص فريدة تجمع بين الجوانب الفنية والقانونية، مما يجعله مختلفًا عن الأدلة التقليدية. وفهم هذه الخصائص ضروريًا لتحديد قيمته وضمان التعامل السليم معه، من أبرزها:
- طبيعته التقنية
يتميز الدليل الرقمي باكتسابه طبيعة تقنية تجعل من استخلاصه وكشف دقته وحقيقته عسيرة على غير المختص، وذلك بسبب أنه دليل غير مادي ويصوّر بشكل بيانات تعرض إلكترونيًا، مع وجود احتمال تلفها وعدم استرجاعها الا من قبل خبير متخصص
- الخصوصية
يتمتع الدليل الرقمي بالخصوصية كونه دليلاً محفوظًا أو منقولاً من شكل رقمي مكوّن من رموز وأكواد خاصة إلى صيغة يمكن فهمها والاستدلال بها.
- قابليته للنسخ
يمكن تكراره ونسخه في صور متطابقة يصعب إزالتها أو حذفها كليًا وهو ما يمنحه ميزة الديمومة والاستمرارية بخلاف بقية الأدلة المادية.
- قابليته للتعديل
يمكن الإضافة عليه، أو تغييره، أو التلاعب به وتحريفه باستعمال وسائل تقنية مما يستلزم فحصًا فنيًا لضمان مصداقيته والتيقن من أصله ومحتواه ودلالته.
- ارتباطه بالزمان والمكان
يتضمن بيانات زمنية ومكانية مثل وقت الإنشاء وموقع المستخدم مما يتيح تتبع المصدر والتحقق من موثوقيته.
- سهولة الحفظ والاسترجاع
إمكانية حفظه لفترات طويلة واسترجاعها بسهولة مما يجعلها عملية في الإثبات.
رابعًا: حجيّة الدليل الرقمي
اعتمد النظام السعودي منهجًا متوازنًا في تقرير حجية الدليل الرقمي، فجعلها تختلف بحسب مصدر الدليل وطبيعته، وقسمه إلى نوعين رئيسيين هما، الدليل الرقمي الرسمي، والدليل الرقمي العادي:
الدليل الرقمي الرسمي:
هو ما يصدر عن موظف عام أو جهة مكلفة بخدمة عامة يثبت فيه ما تم على يديه أو ما تلقاه من ذوي الشأن، وذلك طبقًا للأوضاع النظامية وفي حدود سلطته واختصاصه. ومن ضمنه ما يصدر آليًا من الأنظمة الرقمية التابعة للجهات الحكومية وفق الإجراءات النظامية. سواء كان مستندًا، أو سجلات إلكترونية حكومية، أو إشعارات رقمية صادرة آليًا. ويكون له حجية المحرر الرسمي، أي أنه يُعد صحيحًا وثابتًا حتى يطعن فيه بالتزوير، وهي الطريقة الوحيدة للطعن فيه.
إذا لم يستوفِ الدليل الرقمي الرسمي الشروط السابق بيانها، فإنه لا يفقد قيمته تمامًا، بل تكون له حجية المحرر العادي. وبهذا يضمن النظام أن تظل الأدلة الرقمية الصادرة عن الجهات العامة موثوقة وذات قوة في الإثبات بما يتناسب مع التطور التقني والتحول الرقمي الذي تشهده المملكة.
الدليل الرقمي غير الرسمي:
لم يقتصر نظام الإثبات على تنظيم الأدلة الرقمية الصادرة عن الجهات الرسمية فحسب، بل امتد ليشمل أيضًا الأدلة الرقمية غير الرسمية الصادرة عن الأفراد أو المنشآت نظرًا لانتشار التعاملات الإلكترونية في شتى المجالات. وقد راعى المشرّع السعودي أهمية هذه الأدلة في الواقع العملي، فنصّ على أن الدليل الرقمي غير الرسمي يُعد حجة على أطراف التعامل ما لم يثبت خلاف ذلك متى توافرت فيه بعض الشروط التي تضمن موثوقيته، وهي:
- إذا كان صادرًا وفقًا لنظام التعاملات الالكترونية أو نظام التجارة الإلكترونية.
- إذا كان مستفادًا من وسيلة رقمية منصوص عليها في العقد محل النزاع.
- إذا كان مستفادًا من وسيلة رقمية موثقة أو مشاعة للعموم.
عبء الإثبات
الدليل الرقمي الرسمي: لا يجوز الطعن في الدليل الرقمي الرسمي إلا بالتزوير وفق الحالات المقررة نظامًا.
الدليل الرقمي العادي: إذا أنكر الخصم صحة الدليل الرقمي، فيقع عليه عبء إثبات ادعاءه -أي إثبات التزوير، أو إثبات خلاف مضمون الدليل- بخلاف المحرر العادي الذي يقع عبء الإثبات فيه على مقدمه.
خامسًا: تقديم الدليل الرقمي
يقدم الدليل الرقمي بصورته الأصلية أو بما يعادلها من الوسائل الرقمية المعتبرة، على أن يتضمن:
- بيان نوع الدليل الرقمي
- مضمون الدليل الرقمي، ونسخة منه
- تفريغ الدليل الرقمي كتابة متى كانت طبيعته تسمح بذلك
اذا رفض مقدم الدليل الرقمي أو امتنع عن تقديم ما تطلبه المحكمة للتحقق من صحة الدليل الرقمي بعذر غير مقبول سقط حقه في التمسك به أو عد حجة عليه بحسب الحال. أما إذا تعذر التحقق من صحة الدليل الرقمي بسبب لا يعود للخصوم فتقدّر المحكمة حجية الدليل الرقمي بما يظهر لها من ظروف الدعوى، ولها الاستعانة بخبير للتحقق من الدليل الرقمي.
إن التوسع في نطاق الدليل الرقمي واستيعابه لمختلف صور البيانات والمعاملات الإلكترونية، يعكس وعيًا تشريعيًا بأهمية مواكبة التطور التقني. فالدليل الرقمي، بمختلف أنواعه، لم يعد مجرد مساعدة في الإثبات، بل أصبح محورًا أساسيًا في الإثبات في عديد من القضايا، مؤكدًا أن البيئة الرقمية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من البيئة القانونية. وأن العناية بضوابط هذا الدليل، وحفظه، واستخراجه بالطرق المشروعة، يمثل الركيزة الأساسية لضمان العدالة التقنية وحماية حقوق الأفراد في هذا العصر.
رزان عثمان

